أمن الدول في الفترات الإنتقالية ASSAM 2022

أمن الدول في الفترات الإنتقالية، استكمالا للنظرية الجيوسياسية الإسلامية

مقدمة

لاشك أن هناك فترات صعبة تمر بها الدول، فإذا لم تستطع إدارة هذه الأزمات تتعرض للزوال أو للاحتلال، وقد وجدنا على مر التاريخ إمبراطوريات قامت ثم تلاشت لأنها لم تستطع أن تعبر فترات إنتقالية وأزمات وأعداء متربصين بها.

الحياة هكذا، يوم لك ويوم عليك، والاستقرار نوع من الموات خاصة إذا طالت فتراته، وإذا لم يعقبه حركة وإبداع، والدول التي عبرت الأزمات واستقرت فترات طويلة تصبح دولا ثابتة غير متحركة أو غير مبدعة، لأن الأزمات في الحقيقة هي التي تظهر الإبداع والإبتكار، وهناك مثل شائع يقول: الحاجة أم الإختراع، فلولا حاجة الإنسان لحماية نفسه وأهله من الرياح والأمطار والحيوانات المفترسة والزلازل ما شيد المباني الذكية التي تقاوم كل هذه الأخطار.

كذلك الدول تتعرض لما يتعرض له الإنسان، فهي تتعرض للإعتداء من الدول المجاورة أو ربما تتعرض لإعتداء داخلي يدعمه قوى خارجية للسيطرة على الدولة أو احتلالها، وقد وجدنا في العصر الحديث كيف يتم صناعة الأحداث والحروب كي تعيد الدولة نشاطها وسيطرتها على باقي الدول من جديد، وأوضح مثال على ذلك هو أمريكا.

سوف نتحدث في هذا البحث عن بعض الفترات الإنتقالية التي كادت أن تعصف بالدول لكن حسن إدارتها والحسم الذي اتسم به قادتها استطاعت أن تقي نفسها من الزوال أو الإعتداء أو الإحتلال، وستكون البداية من دولة المدينة التي أنشأها المسلمون بقيادة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، كيف أنشأها وكيف وضع الأسس التي تحمي هذه الدولة.

سنتطرق أيضا إلى دولة المماليك التي استطاعت في فترة انتقالية عصيبة أن تنشيء دولة قوية تمكنت من القضاء على المغول الذين أسقطوا بغداد عاصمة دولة الخلافة العباسية.

وفي العصر الحديث وما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية حيث أصبحت أمريكا دولة عظمى تحكم العالم، وهل سيستمر نجم هذه الدولة خلال القرن الحادي والعشرين أم نرى صعود دولا أخرى تفرض نفسها على الساحة الدولية بعد أن أصبحت الكرة الأرضية كتلة واحدة يتصارع عليها الأقوياء.

الأزمة وكيفية مواجهتها

الأزمة هي لحظة فارقة بين النجاة أو الغرق، بين إسقاط الدولة أو بعثها من جديد، وهي تمثل نقطة تحول يصحبها الكثير من المخاطر ، كما أنها مرحلة انتقالية تتسم بعدم التوازن ويحدث على إثرها كثير من التغيرات المستقبلية إما سلبا أو إيجابا، وهذا يتوقف على القرارات التي تٌتخذ لمواجهتها وقد تكون فرصا للنجاح، وأهم ما يميز الأزمة هو ضغط الوقت الذي يجب أن تكون فيه القرارات حاسمة وسريعة لإنهاء الأزمة قبل أن تزداد تداعياتها أو إنتشارها.

وعند حدوث أزمة يجب التحقق من صحة المعلومات واستقبال الأزمة بشجاعة والتخطيط الجيد، وفي ظل الأزمات تغيب القوانين وبالتالي فالقانون الذي يجب أن نتَّبِعَه في وقت الأزمات هو القانون الأخلاقي الذي يضمن لنا النجاة من تلك الأزمات.

مراحل الأزمة

  • مرحلة الحضانة: إدراك العوامل التي تنذر بحدوث أزمة واحتوائها بتشكيل فريق إدارة أزمات وجمع المعلومات ووضع خطط بديلة وإنشاء فرق للمهام الخاصة مدربة على مواجهة الأزمة.
  • مرحلة الاجتياح: وهي مرحلة بداية الأزمة وتمثل أصعب المراحل، والتي تحتاج تتبع الأزمة ومنع تمددها وقطع الطريق على من يقوم بإشعالها.
  • مرحلة الاستقرار: ويتم فيها تطبيق خطط مواجهتها.
  • مرحلة الإنسحاب: وهي مرحلة تلاشي الأزمة.
  • مرحلة التعويض: ويتم فيها تقييم الأزمة وتلافي آثارها وإعادة الإعمار وتعويض المتضررين من الأزمة، ومعالجة الآثار النفسية للأزمة، والتعلم منها لعدم تكرارها.

أسباب الأزمات الداخلية

  • أسباب اقتصادية : فقر – بطالة – جهل – فساد – عدم التوزيع العادل للثروة.
  • أسباب سياسية: الصراع على السلطة وعدم التداول السلمي لها – الصراعات المسلحة – الصراعات الحدودية – المتغيرات الإقليمية والدولية.
  • أسباب كارثية: الزلازل والبراكين – الفيضانات – شح المياه – الحرائق – تسرب إشعاعي وغيرها.
  • أسباب إجتماعية: توترات طائفية أو عرقية أو عنصرية.

أسباب الأزمات الدولية

  • اختلال توازن القوى والأحلاف وخلافات الحدود.
  • من أجل الموارد مثل الطاقة والمياه والغذاء وغيرها.
  • الصراع من أجل التوسع الجغرافي.
  • محاولة الدول لتغيير الوضع في دولة أخرى بالإنقلابات السياسية أو العسكرية أو الإقتصادية.
  • وجود بؤر خلاف لم تُحسم رغم مرور الوقت.
  • خرق الدول للإتفاقيات القائمة بينها.
  • استعراض القوة.
  • الاحتلال وهو أحد المصادر الأساسية للأزمات الدولية.

ذكر فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ أنه يتوقع عودة الاحتلال في ظل الأمم المتحدة، ونحن نرى اليوم كثير من الصراعات الدولية التي تترواح بين التفاوض والمساومة والضغط والإحتواء والحصار والترهيب وتعزيز التحالفات، ويرتبط الصراع بالحدود الجغرافية وحجم الموارد والإمكانيات، والهدف هو تحطيم طرف للطرف الآخر كليا أو جزئيا.

مراحل إدارة الأزمات

  • الإكتشاف المبكر لها (المرحلة التحذيرية).
  • الإستعداد والوقاية بوضع سيناريوهات مختلفة لأزمة متوقعة وتدريب الأفراد على الخطوات اللازمة لمواجهة تلك الأزمة.
  • احتواء الأضرار والحد منها (في حال وقوع الأزمة) لمنع انتشارها وانتقالها إلى أماكن أخرى.
  • إستعادة النشاط (مرحلة إنحسار الأزمة) بعد مواجهتها وتقييمها وإعادة الأمور إلى طبيعتها.
  • التعلم المستمر وإعادة التقييم للإستفادة من الخبرات السابقة إذا ما تكررت الأزمة.

الإجراءات التقليدية لا تصلح في إدارة الأزمات، كما يجب تحديد الأولويات وتفويض السلطة لأفراد الفريق الذي سوف يتعامل مع الأزمة، كذلك فتح قنوات اتصال مع الأطراف الأخرى للأزمة، والتواجد المستمر وسط الأحداث ليسهل إدارتها، وتوعية الجمهور للتفاعل بشكل إيجابي والمساهمة في حل الأزمة.

أسس مواجهة الأزمات

  1. من هم أطراف الأزمة.
  2. معرفة الأهداف لمواجهة الأزمة.
  3. ضمان سرعة وملائمة الاستجابة للحدث.
  4. ضمان قانونية القرارات المتخذة.
  5. ضمان تمثيل الجهات التي لها علاقة بالأزمة.
  6. ضمان تنسيق الأعمال والتوجهات المختلفة.
  7. ضمان توفير مرجع لمستقبِلي المعلومات حول المواقف المختلفة.
  8. التحليل السليم للأوضاع الاستراتيجية للأطراف.
  9. تحديد المخرج، والهدف.
  10. التنفيذ يكون ضمن خطة مدروسة تستند إلى قرار سياسي مرن.

الإجراءات اللازمة وقت الأزمات

  • الأمن وتأمين الأرواح والممتلكات والمعلومات.
  • جمع القوة لمعالجة الأزمة والإقتصاد في استخدام القوة خاصة إذا كانت الأزمة قابلة للتكرار.
  • الخداع والمباغتة للسيطرة على الأزمة فترة من الزمن كافية لإرباك الخصم وبالتالي السيطرة عليه.
  • الإحتفاظ بحرية الحركة والمبادأة.
  • عدم اليأس ومواجهة الشائعات وفتح ثغرات لاستنزاف الأطراف المسببة للأزمة.
  • تحديد الأماكن المحصنة لإتخاذها أماكن ارتكاز وقواعد للإنطلاق.
  • امتصاص الأزمة عن طريق الإستجابة لبعض المطالب والتوافق مرحليا مع قوى صنع الأزمة.
  • الوسائل الإقتصادية حيث تعد المساعدات الإقتصادية أحد العناصر الهامة في علاقات الدول سواء للترغيب أو الترهيب.
  • وسائل الحرب النفسية عبر الصحف ووسائل التواصل.
  • الوسائل المخابراتية
  • استخدام القوة العسكرية بعد استنفاذ الوسائل الدبلوماسية.

الفترات الإنتقالية

تتمثل في الإنتقال من نظام حكم إلى نظام آخر نتيجة موت الحاكم أو الإنقلاب عليه أو احتلال دولة لدولة أخرى، أو ثورات شعبية تسعى لتغيير الحاكم.

وهذه الأحداث جميعها نراها اليوم تحدث في كثير من دول العالم وخاصة في الدول العربية والإسلامية، وهذه الفترات الإنتقالية إذا لم نحسن إدارتها ستتحول إلى أزمة كبيرة عندما تتدخل أطراف دولية لتوجيهها لصالحها.

وهذا ما رأيناه في ثورات الربيع العربي، ففي الثورة السورية عندما لم يتمكن الثوار من السيطرة على الدولة وإسقاط النظام الحاكم، تدخلت أطراف أخرى لاحتلال سوريا تحت مسمى تحقيق الأمن والسلم في المنطقة بعد تحول الثورة إلى صراع مسلح.

وتدخلت عدة أطراف للحل بل لنَقُل لاستمرار الأزمة واستثمارها للسيطرة على باقي دول المنطقة وتقسيمها كما تفعل أمريكا الآن.

وكذلك الأزمات المستمرة في مصر والعراق واليمن ولبنان وليبيا، والتي تصر الدول الكبرى على استمرار بقائها في محاولة لإعادة خريطة السيطرة والهيمنة على تلك الدول من جديد.

ولذلك نرى أن شعوب هذه الدول لم تنجح في إدارة الأزمة والإنتقال بشكل سلسل من حكم طاغية مستبد إلى حكم ديمقراطي لأنها لم تدرك أبعاد الأزمة والأطراف المشاركة في صناعتها على كل المستويات السياسي والإقتصادي والإعلامي داخليا وإقليميا ودوليا.

المنطقة العربية وأزمات متتالية

سوف أقوم بالتركيز على المنطقة العربية باعتبارها مسرحا لكثير من الأزمات والصراعات بين الدول الكبرى، وبين الشعوب التي تسعى لإنهاء الهيمنة الأجنبية على إرادتها وقرارها، كما تسعى هذه الشعوب لإقامة علاقات متوازنة مع كل دول العالم.

ولأن منطقتنا العربية تمثل رمانة الميزان التي ترجح كفة قوة على قوة أخرى رغم الأزمات التي تعيشها دول المنطقة، كما نرى الآن حيث تسعى روسيا من جانب وأمريكا من جانب آخر لكسب دول المنطقة إلى صفها، فعلينا أن نتحمل مسئولياتنا في منع حرب كونية بين القوتين.

وأنا أرى ورغم كل تلك الأزمات إذا أُحسن قراءة المشهد الدولي وأُحسن التنسيق بين الأطراف العربية والإسلامية لخرجنا من هذه الأزمات ونحن أقوى بل وربما أصبح العالم الإسلامي من يُحدث توازن قوى بين القوى المتصارعة. بين روسيا وحلفائها من جانب، وأمريكا وحلفائها من جانب آخر ويمنع صدام نووي متوقع بين الطرفين.

بل ويساهم أيضا في حل أزمتي الطاقة والغذاء، فلسنا مع طرف ضد طرف آخر لأننا ندعوا الطرفين إلى حسن الجوار واحترام الشعوب وكسر هيمنة القوة ليكون العدل هو السائد بين شعوب العالم.

روسيا وحدودها الملتهبة

لاشك أن أمريكا تريد استمرار هيمنتها على العالم بأي ثمن حتى لو وضعت دول العالم كلها في حرب كونية، باعتبارها هناك تمثل جزيرة بين المحيطين الأطلسي والهادي، ولن يجرؤ أحد نقل المعارك إليها.

كما أنها تدرك أن روسيا وحدها لا تستطيع هزيمتها بحكم موقع روسيا الجغرافي المحاصر من كل جهاته، الحدود الشمالية تحاصرها الثلوج ونحن على أبواب فصل الشتاء، وإن حدث هناك تحرك فسوف يقابله تحركا أمريكيا في ألاسكا التي اشترتها أمريكا من روسيا.

الحدود الشرقية تحاصرها اليابان وكوريا الجنوبية وكلاهما في تحالف مع أمريكا بل يوجد الكثير من القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان، فإذا أرادت اليابان أن تتحرر من الهيمنة الأمريكية وتسترد جزر الكوريل التي تحتلها روسيا فعليها التحالف مع روسيا لمنع استمرار هيمنة أمريكا على العالم.

الميليشيات أم اللوبيات

هنا يأتي دور اللوبيات الروسية أو حلفائها داخل اليابان حيث يمكن لهذه اللوبيات التأثير على القرار الياباني مقابل صفقة أن يكون في الطرف الروسي في المعركة مقابل تحرير جزر الكوريل وإنهاء الصراع بينهما، أو على الأقل تكون طرفا محايدا في الحرب الدائرة بينهما، وبهذا تضمن روسيا وحلفاؤها سلامة الجبهة الشرقية.

حدود روسيا الغربية يمكن غلقها في بحر البلطيق بمنع تحركها بريا إلى الجزء التابع لها على البحر في كاليننجراد بالإضافة إلى عدائها مع دول أوروبا الغربية الموالية لأمريكا والأعضاء في حلف الناتو.

وما زالت دول أوروبا ترى في تحالفها مع أمريكا حماية لها من الإتحاد الروسي ما يجعل العلاقات بينهما متوترة بعد أن شهدت علاقات متميزة اقتصادية في عهد ترامب خاصة العلاقات الروسية الألمانية والفرنسية.

وقد كان أحد أهداف أمريكا في الحرب الروسية الأوكرانية استنزاف دول أوروبا وإعادتها لبيت الطاعة للسيد الأمريكي.

ونكرر ما ذكرناه في حالة اليابان أن تقوم اللوبيات الروسية أو لوبيات الدول المتحالفة معها في دول أوروبا إلى إعادة تقييم علاقاتها مع روسيا الدولة الجارة والتي هي أقرب لهذه الدول من أمريكا بحيث تؤثر في القرار الأمريكي لوقف الحرب الروسية الأوكرانية وتفضيل الحل السياسي على العسكري بديلا عن استنزاف دول أوروبا.

تركيا ودول وسط آسيا وتوازن القوى

نأتي إلى الحدود الجنوبية لروسيا، التي تتمثل في دول وسط آسيا من جهة والبحر الأسود وتركيا من جهة أخرى، حيث تمثل هذه الدول طوق النجاة لروسيا في الحرب الدائرة.

لا يمكن لروسيا في الوقت الحالي أن يكون بينها وبين هذه الدول صراعات فتفتح جبهات أخرى قد تؤدي إلى حصارها حصارا تاما، وهذا ما تسعى إليه أمريكا حيث أصبحت تركيا الآن هي الدولة المستهدفة من أمريكا وحلفائها للضغط على الروس.

تضغط أمريكا على تركيا من عدة جبهات: الجبهة الشرقية بتحريض أرمينيا لاستمرار حربها مع أذربيجان حليف تركيا، والجبهة الغربية بتسليح اليونان للجزر المتنازع عليها بينها وبين تركيا، واتخاذ أمريكا اليونان قاعدة عسكرية لها.

ومن الجبهة الشمالية تحرض أمريكا أوكرانيا على مواصلة حربها ضد روسيا ورفض الحل السياسي الذي تقترحه تركيا لوقف الحرب، أما الحدود الجنوبية فتشمل الدعم الأمريكي للميليشيات الإنفصالية في سوريا والعراق على الحدود التركية.

بالإضافة إلى تسليح قبرص الرومية والتي تجري فيها بريطانيا مناورات عسكرية.

وقد نجحت تركيا في تحييد أرمينيا بعقد اتفاق سلام بينها وبين أذربيجان واعتراف أرمينيا بأن إقليم كاراباغ إقليم تابع للأراضي الأذرية، وغربا استعدت تركيا لأي مواجهات عسكرية محتملة مع اليونان مع استمرار المحاولات التركية في حل النزاع بينها وبين اليونان بالطرق السلمية واحترام اليونان للإتفاقيات الدولية التي نصت على عدم تسليح الجزر المتنازع عليها.

كما أن اليونان على يقين أن الحرب المتوقع حدوثها مع تركيا والتي تحرض عليها أمريكا لن تضر سوى الشعب اليوناني أما الشعب الأمريكي فهو هناك بعيدا عن أرض المعركة متحصن في جزيرته بين المحيطين.

تركيا تدعم سيادة الدول واحترام القانون الدولي

يدعم تركيا أوكرانيا في حقها في الدفاع عن أرضها بل وتدعمها عسكريا وليست طرفا في صراعها مع روسيا، كما أنها لم تعترف بالمناطق التي أعلنت روسيا استقلالها والتي احتلتها روسيا وهي لوجانسك ودونستك وخيرسون وزابروجيا.

بالإضافة إلى سعيها في عقد لقاء بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأوكراني زيلينسكي، لحل الصراع بينهما سياسيا، وقد أثبتت تركيا سعيها لحل الأزمة بين الدولتين من خلال اتفاقية نقل الحبوب الأوكرانية عبر تركيا.

وكذلك تعويض أوروبا بالغاز الأذري والروسي عبر الأراضي التركية إلى أوروبا بعد تدمير خط نورد ستريم الذي يمر من روسيا إلى ألمانيا عبر البلطيق.

نأتي إلى الحدود الجنوبية والتي تمثل الخطر الأكبر لأن أطرافها دولا عربية تقوم أمريكا بالضغط على دول عربية أخرى عن طريق الجامعة العربية لتحويل الصراع في سوريا والعراق من صراع عراقي إيراني وسوري إيراني إلى صراع عربي تركي على اعتبار أن تركيا تحتل أراضي عربية في سوريا والعراق.

وهي تمارس نفس السياسة في ليبيا التي تدعي مصر أن الحكومة الليبية ليست منتخبة وليس من حقها إبرام أية اتفاقيات مع دول أخرى رغم أن هذه الحكومة نفسها حكومة الدبيبة أبرمت اتفاقيات اقتصادية مع مصر.

بل إن النظام في مصر جاء بانقلاب عسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي المعترف به دوليا، وكان ذلك في 3 يوليو 2013.

وبنفس المنطق الذي تريد مصر فرضه على الحكومة الليبية فإن الشعب المصري يعلن أن أية اتفاقيات تم توقيعها مع النظام المصري مع أي دولة في العالم تعتبر لاغية وباطلة لعدم شرعية النظام الحاكم.

فإن رفض الإنقلاب في مصر الإتفاق التركي الليبي وحرض الغرب على إعلان رفضه لهذا الإتفاق ففي المقابل يفرض على نفسه نفس المصير برفض شرعيته وما نتج عنها من اتفاقيات.

الأزمة في سوريا والعراق ما الحل؟

نجح الغرب الذي يدير الأزمة فعليا في سوريا في نقل المعارك من الجنوب المتاخم لفلسطين المحتلة إلى الشمال السوري بالقرب من الحدود التركية، وبالتالي قام بتوجيه الصراع من صراع داخلي بين النظام والشعب الذي يسعى للتغيير إلى صراع بين النظام السوري والدولة التركية.

مثلما نجحوا تماما في تحويل الصراع في العراق من الشرق المتاخم لإيران التى تدعم الميليشيات الشيعية لقتل وتهجير السنة إلى شمالها القريب من الحدود التركية، والهدف نقل الصراع الإيراني العراقي والسوري الصهيوني إلى صراع عراقي سوري ضد تركيا.

ونتيجة لسوء تقدير القادة في العراق وسوريا لحل الأزمة استثمرها العدو لصالحه لمزيد من تمزيق الأمة والصراع فيما بينها، فأصبح اللاعبون الحقيقيون في سوريا والعراق ليسوا هم الشعب السوري والعراقي بل أمريكا وروسيا وإيران.

لقد تم استخدام النظام السوري كغطاء لاحتلال سوريا، كما تم استخدام إيران كواجهة لمزيد من العداء بين دول الجوار، لأن أمريكا وروسيا ليسا لهما حدود مع كل من سوريا والعراق وبالتالي فأفضل الحلول هو خلق صراع دائم بين إيران وسوريا والعراق.

فإذا استطاعت إيران السيطرة على العراق وسوريا بدأت في خلق صراع جديد مع تركيا التي تقاوم محاولة تقسيم كل من الدولتين لمنع انتقال النار التي أشعلتها إيران إلى الداخل التركي.

إذن الأطراف التي يجب وضع خطة للتعامل معها هي: النظام السوري والنظام الإيراني، ثم يأتي بعدهما الدول الداعمة لكل منهما، أمريكا وروسيا.

والمطلوب نقل المعارك إلى الوضع الطبيعي: من شمال العراق إلى شرقها عند الحدود الإيرانية، ومن الشمال السوري إلى جنوبه عند العدو الصهيوني، كيف يتم ذلك؟

العراق وسوريا وفلسطين دول تحت الإحتلال، وليس إحتلالا من طرف واحد بل احتلال مركب فالصراع في تلك الدول صراعا متشابكا بين روسيا وأمريكا وأوروبا وإيران، لكل من تلك الدول ميليشيات تقوم بتمويلها وتدريبها على زعزعة استقرار تلك الدول وبالتالي قبول شعوبها بمبدأ التقسيم في مقابل الاستقرار.

بنفس هذا المنطق يمكننا أن نفعل ذلك في إيران، أي تكوين ميليشيات عراقية فيها، بحيث نصل إلى نقطة تتوازن فيها القوى بين الميليشيات العراقية في إيران مع الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا. وعندها يحدث التفاوض.

بل يمكن أن تكون هذه الميليشيات عبارة عن تحالف من الدول المتضررة من إيران والتي تتدخل في شئونها الداخلية وتزعزع استقرارها بحيث لا تتحرك هذه الميليشيات إلا بتنسيق مع دول معتبرة تسعى لمنع تقسيم دول المنطقة.

لاشك أن هذا الحراك يحتاج إلى حسن إدارة وحسن دراسة للموقف وتحديد أماكن تحركه بحيث تكون مؤلمة لإيران، ولا تصل إلى حرب نظامية من جديد، فلسنا نريد حربا مع إيران بل نريد من إيران أن تحترم حدود الدول المجاورة وألا تتدخل في شئونها الداخلية، ولا مانع من إبرام اتفاقيات تعاون مشترك بين إيران من ناحية ودول الجوار من ناحية أخرى.

أوكرانيا والصراع الروسي الأمريكي

هناك فريقان يتصارعان روسيا وأمريكا، ولسنا كدول إسلامية طرفا في هذا الصراع إلا بالقدر الذي نحافظ فيه على مصالحنا الإستراتيجية وفي نفس الوقت منع حرب نووية بين الطرفين وهذا واجبنا ومهمتنا في هذا العالم، منع اعتداء دولة على حدود دولة أخرى، وإذا حدث الإعتداء تُعاقب الدولة المعتدية بشكل لا يضر المدنيين في الدولتين أو امتداد الحرب بينهما إلى أطراف أخرى.

وقد أصبحت أهداف أمريكا واضحة من تلك الحرب:

  • عزل روسيا عن دول أوروبا.
  • استنزاف قوة كل من روسيا وأوكرانيا ودول أوروبا خاصة ألمانيا وفرنسا.
  • استمرار هيمنتها على دول أوروبا.
  • احتكار توريد الغاز لأوروبا بالأسعار التي تفرضها أمريكا على الاتحاد الأوروبي.
  • حصار روسيا في البحر الأسود والبلطيق.
  • حصار تركيا من كل الجهات

في البحر الأسود شمالا، وبالقواعد العسكرية الأمريكية في اليونان غربا، وتسليح الجزر القريبة من تركيا في بحر إيجه، وكذلك تسليح قبرص الرومية في شرق المتوسط، ومن خلال الميلشيات المسلحة الإنفصالية جنوبا في سوريا والعراق، وتحالف إيران مع أرمينيا ضد تركيا وأذربيجان شرقا، وبذلك يتم عزل تركيا تماما وإعلان الحرب عليها.

لكن تركيا لم تعد وحيدة في معارضتها للسياسة الأمريكية في المنطقة فقد بدأت دولٌ أخرى كثيرة تعارض سياستها وترفض هيمنتها بطريقة مهينة لتلك الدول، وإذا استمرت على تلك السياسة فستفقد أمريكا تأثيرها ومصالحها في المنطقة في المدى القريب.

إن دول العالم الإسلامي تسعى لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وعلى رأسها تركيا لأن خطر هذه الحرب سوف يمتد إلى كل الدول المطلة على البحر الأسود، وأمريكا ليس لها حدود على البحر الأسود وبالتالي لن تتأثر بالحرب، لكنها ستفقد حلفاءها إن استمرت في عرقلتها للحلول السلمية.

كما أن تركيا ليست طرفا في الحرب، فهي ليست مع روسيا وليست ضد أمريكا لأنها تسعى في النهاية لإحداث توازن بين القوتين حتى لا تتسع الحرب وتشمل مناطق أخرى، وتركيا والعالم الإسلامي ليسوا في عداء مع هذا الطرف أو ذاك إلا فيما يتعلق بتدخل هذه الأطراف في السياسة الداخلية لهذه الدول.

وعلى روسيا وأمريكا وكل دول العالم أن تحترم علاقاتها بالدول الأخرى كما تنص الإتفاقيات الدولية على ذلك، فإذا كانت الدول الكبرى هي التي تخترق القانون الدولي فيجب وضع آليات جديدة تُلزم هذه الدول بوقف اختراقها للقانون الدولي، ويشارك في وضع هذه الآليات وتنفيذها كل دول العالم بما فيه دول العالم الإسلامي الذي يمثل ربع سكان الأرض.

إضاءات عند حل الأزمات

الحباب ابن المنذر

كل الشعب مسئول عن إيجاد حل للأزمة ودعم القائد مثلما فعل الصحابي الحباب ابن المنذر في غزوة بدر عندما أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بمكان آخر للمعركة رأى أنه أفضل من المكان الذي اختاره القائد، ونزل النبي على رأيه عندما وضَّح مزايا المكان الجديد.

الإعلام

في الحرب وفي وقت الأزمات تكثر الشائعات، بل يوجد جهاز خاص لبث الشائعات للتأثير في مسار المعركة، ولذلك أول الأجهزة التي يتم السيطرة عليها في الحروب والأزمات هو الجهاز الإعلامي.

وعلى الشعوب أن تعي ذلك وألا تردد ما يبثه الإعلام قبل أن تتأكد من صحة المعلومات، ويجب أن يكون هناك متحدث رسمي يمثل رأس الدولة هو المسئول عن تتبع الشائعات وموافاة الشعوب بالحقائق التي لا تضر بمسار المعركة.

نعيم ابن مسعود

كل معركة يجب أن يوجد صحابي مثل نُعَيم بن مسعود الذي كان على علاقة وثيقة مع قريش ومع اليهود، وعندما أسلم ولم يعلم هؤلاء بإسلامه قال له النبي: خذل عنا ما استطعت. واستطاع أن يوقع بين الحليفين قريش ويهود المدينة، وبالتالي عمل على تقسيم الجبهة المواجهة له إلى جبهتين متنافرتين،

وهذا دور اللوبيات الموجودة في كل دولة وتعمل لصالح الدولة التي تنتمي إليها، مثل اللوبي اليهودي والأرميني في أمريكا، والمسلمون اليوم في كل دول العالم عليهم أن يدركوا خطورة الوضع الذي تعيشه الشعوب المسلمة وأن يكونوا داعمين لها حتى يضمنوا سلامتهم هم في الدول المعادية للإسلام.

أبو بصير وأبو جندل

عندما يجد جزء من الشعب أن قيادته اضطرت إلى قبول بعض الشروط المجحفة من أجل تحقيق نصر أكبر، عليه ألا يضع قيادته في مأزق ويبحث عن حل بعيد عن مناطق نفوذ طرفي الصلح، مثلما فعلت جماعة أبي بصير وأبي جندل في صلح الحديبية.

أخذوا قرارا بالبعد عن مناطق نفوذ طرفي الصلح مكة والمدينة حتى لا تُحسب أفعالهما على دولة المدينة، وقطعا طريق قوافل قريش فاضطرت قريش أن تطالب النبي بإلغاء هذا الشرط.

نعطي مثالا: تركيا وقعت اتفاقا مع روسيا وإيران والمعارضة السورية بمناطق خفض التصعيد واشترطت روسيا كمثال عدم وجود جهاديين في هذه المناطق، وقَبِلَت الحكومة التركية هذا الشرط على أساس تأمين المدنيين وعدم تهجيرهم إلى أماكنَ أخرى، ماذا يفعل الثوار؟

إذا كانت المناطق المتفق عليها على عمق 30 كم يقومون بنقل نشاطهم إلى مناطق أبعد من 30كم وبالتالي لا يتم وضع الحكومة التركية في مأزق ويبدأوا هم بالإمتداد داخل الأرض السورية، وإذا كانت المناطق تقع في الشمال يمكنهم نقل نشاطهم إلى الجنوب أو إلى المناطق التي يكون تأثيرها على أطراف الإتفاقية أقسى فيطلبون إلغاء بعض الشروط لصالح الثوار.

عدة اتفاقيات لعدو واحد

عندما عقد النبي وثيقة بينه وبين يهود المدينة لم تكن وثيقة واحدة لكل اليهود مجتمعين بل عقد اتفاق مع يهود بني النضير وحدهم ووثيقة أخرى مع بني قينقاع، ووثيقة ثالثة مع بني قريظة، حتى إذا أخَلَّت واحدة منها بالشروط تُعامل وحدها، ولا يجتمع كل اليهود ضد المسلمين.

ولذلك عندما تُعقَد اتفاقيات مع ميليشيات يجب أن تعقد الإتفاقيات مع كل ميليشيا على حده بحيث لا تجتمع الميليشيات في اتفاقية واحدة فيحاربونك مجتمعين.

دولة المدينة

بدأ النبي محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام سرا، ثلاث سنوات يختار فيها النبي أصحاب القلوب والعقول الراجحة التي تستوعب معنى عبادة الله الواحد الأحد وترك عبادة الأصنام.

ورغم أن الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الساعد الآخر للنبي بعد إسلامه إلا أن رسول الله لم يدعه إلى الإسلام في بداية الدعوة لعلمه بشدة وغلظة وجرأة عمر التي قد تجعله يشي بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

فإن وجدت جريئا في الحق لا يهاب الموت ولا يخشى أحدا فاعلم أنه غالبا لا يصلح للعمل سرا.

ثم بدأت الدعوة الجهرية لعشيرة النبي الأقربين حتى قال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا، والملاحظ أيضا أن النبي لم يدع أهله المقربين لأن مقاومتهم لدعوته سيجعل أهل مكة يرفضون الدعوة لأنها رُفضت ممن هم أهل للإيمان بها، معادلة تحتاج إلى دراسة لتفكيكها في عصرنا الحالي الذي يميل إلى التعصب الأعمى في كل شيء حتى وإن أدى ذلك إلى الهلكة، تعصب للقبيلة والعشيرة والجماعة وووو.

كانت قبيلة قريش حربا على المسلمين وتعذيبهم لردهم عن دينهم، فما كان من النبي إلا أن يبحث عن قوم آخرين يتقبلون الدعوة ويسعون لنصرتها، وكان ذلك حال الطائف أيضا.

ولم ييأس رسولُ الله ولم يثنه الإيذاء عن دعوته التي أقسم ألا يتركها حتى يُظهِرُها الله أو يَهلِك دون ذلك، وهذا درس آخر للدعاة وأصحاب الرسالات والأهداف الواضحات ألا يتخَلَّوا عن رسالتهم حتى يُظهِرُها الله أو يهلكون دون ذلك.

قتل واعتقال وتعذيب للمسلمين في مكة، وحصار ثلاث سنوات في شعب أبي طالب محاصرون اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فكيف بالدعوة أن تخرج إلى العالم وهي محاصرة فلا أمان للمسلمين ولا لدعوتهم بعد هذا الحصار، فكان القرار بالهجرة.

لم يكن النبي يبحث عن ملاذ آمن يدعو الناس فيه إلى الإسلام وممارسة شعائره في حرية تامة وفقط وقد عَرضت عليه بعض القبائل النصرة في مقابل أن يؤول لهم الحكم من بعده.

وقد رفض النبي ذلك فنصرة الإسلام ثمنها الجنة وفقط، كان الهدف الأسمى للنبي هو إقامة دولة الإسلام التي تحمي كل من ينضوي تحت لوائها حتى وإن بقي على دينه ولم يدخل في الإسلام، وهذه الدولة التي أنشأها النبي في المدينة لبت نداء حليفها قبيلة خزاعة التي لم تُسلم لكنها قبلت الدخول في حلف المسلمين وقامت قريش بالإعتداء عليها، حينها اتخذ النبي عدة قرارات:

  • نصرة حليفه المتمثل في خزاعة.
  • تأديب الطرف الذي أخل بشروط العقد المتمثل في قريش.
  • رفض وساطة عمه العباس بينه وبين قريش الطرف المعتدي.
  • فَتْحْ مكة الذي جاء تتويجا لصلح الحديبية الذي رأى فيه المسلمون الدنية لكنه كان تنازلا عن هدف صغير وهو أداء العمرة لتحقيق أهداف كبرى وهي الدعوة العالمية للإسلام ثم فتح مكة.

الأنصار

ويؤكد النبي ذلك مع وفد الأنصار في بيعة العقبة أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ولكم الجنة، ولا تطلبوا الأمر لكم من بعدي وإلا أفسدتم على أنفسكم دينكم.

كما تكرر ذلك مع الأنصار بعد غزوة حنين حيث قام النبي بتوزيع الغنائم على المؤلفة قلوبهم من قريش، وقد حزن الأنصار لذلك وعلم النبي فجمع الأنصار وقال لهم: يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون أنتم برسول الله في رحالكم فقالوا رضينا برسول الله قسما، فقال: لولا الهجرة لكنت إمرأ من الأنصار، ثم دعا لهم: اللهم بارك في الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

هذا التأكيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار أن ثمن نصرتكم لله ورسوله هو الجنة وفقط، أكدها في بيعة العقبة، وأكدها بعد غزوة حنين، وهذه الرسالة كانت نتيجتها هو قبول الأنصار بمبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى.

وهذه رسالة لبعض القيادات الإسلامية التي تتصدر للقيادة وهي ليست أهلا لها، بل ويقاتل بعضهم بعضا من أجلها تاركين العدو يوقع مزيدا من الخلاف بينهم إلى أن نُهزم لأن بأسنا بيننا شديد.

وقد رأينا كيف أن أبا بكر قدَّم أباعبيدة ابن الجراح وعمر ابن الخطاب على نفسه في السقيفة فرفضا وقال عمر: والله لا أتقدمك وقد قدمك رسول الله علينا في الصلاة.

واستمرت دعوة النبي للإسلام في كل موقع، في مكة وخارجها، بين الحجيج في بيت الله الحرام لعل الله يجعل له فرجا في قوم يرون الإسلام عزا ونصرا لهم، وكان هؤلاء القوم من الأوس والخزرج الذين سمعوا من يهود أن هذا زمان نبي فأبوا إلا أن يسبقوا يهود في إيمانهم به ونصرتهم له فكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، والفرصة الذهبية التي استثمرها النبي للبدء في تجهيز المدينة لإنشاء دولة الإسلام الأولى بعد أن قرر الهجرة إليها، وهنا درسان:

  • الأول: أن العدو أحيانا يكون عونا لك في دعوتك من حيث لا يدري كما فعل يهود.
  • الثاني: هو إعداد الأرض لتكون مهيأة لاستقبال الوافد الجديد وطبقا للشروط التي تم الإتفاق عليها في بيعة العقبة الثانية وهي نصرة الإسلام والمسلمين مقابل الجنة.

الوفاء بالعهود

لم يكن الوضع في المدينة مثاليا بل كان خليطا من المكائد والعصبيات واليهود الذين يبيعون السلاح لكل الأطراف المتحاربة لجني الأموال والسيطرة على اقتصاد الدولة، وهذا يتطلب حسما ومعاهدات واضحة شروطها بين هذه الأطراف حتى إذا أخل أحد هذه الأطراف بشرط من الشروط تعتبر المعاهدة لاغية ولا وجود له بعد ذلك في هذه الدولة لأنه لم يحترم القواعد التي تم الإتفاق عليها.

وهذا يتطلب:

  • أولا: تحديد الفئات التي يتم عمل العقود معها بحيث لا يتم جمع كل الأعداء في وثيقة واحدة فينقلبوا عليها جميعا بل يتطلب فصل القوات عن بعضها البعض بعقود منفصلة لكل فئة.
  • ثانيا: كتابة جيدة لهذه العهود والمواثيق لا لبس في نصوصها، وتحديد بنودها بدقة.
  • ثالثا: عدم إدخال أطراف أخرى للفصل في النزاع بين الطرفين في حال أخل أحدهما ببند من البنود.

وهذا ما حدث مع اليهود في المدينة حيث أجلى النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير عن المدينة حين اعتدى أحدهم على عرض إمرأة مسلمة، وأجلى يهود بني قينقاع حين تآمروا على قتله، أما يهود بني قريظة فلنا معهم وقفة:

يهود بني قريظة

كانت الحرب دائرة بين المشركين والأحزاب الذين جمعتهم قريش ليحاربوا المسلمين في غزوة الخندق، وكانت حربا مصيرية يتوقف عليها مصير دولة الإسلام، ويهود بني قريظة داخل المدينة ووجب عليهم طبقا لشروط النبي معهم حماية والدفاع عن الدولة ضد أي عدو خارجي، فإذا بهؤلاء اليهود يتآمرون على الدولة ويتحالفون مع أعدائها، وبلغ ذلك رسول الله فقرر محاكمتهم ولكن بعد انتهاء الحرب.

اختار النبي حليفا لليهود للحكم عليهم وهو سعد ابن معاذ فحكم فيهم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية ومصادرة أموالهم.

وهنا نتوقف قليلا: لو أن يهود بني قريظة قد نفذوا خطتهم بالهجوم على أهل المدينة وقتل رئيس الدولة، ماذا سيؤول إليه الحال، لكانت ضاعت الدولة والدعوة معا وكان القتل هو الحكم العادل لجريمة الخيانة والتآمر على الدولة ورئيسها.

ولو صدر الحكم قبل انتهاء المعركة لتأثرت معنويات الجنود وربما انتهز المشركون هذه الفرصة وتحالفوا مع اليهود مرة أخرى بعد أن استطاع نعيم ابن مسعود إفساد التحالف بينهما وقد كان مقربا من المشركين واليهود معا ولم يعلموا بإسلامه حتى قال له النبي: خذل عنا ما استطعت، وهذا درس آخر وهو أن الحرب خدعة وعليك ألا تصدق كل ما يقال خاصة في فترات الحروب أو فترات الإعداد للحرب.

بهذا الحسم وتلك الصرامة بنى النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام في المدينة حتى قال بعد غزوة الخندق عن كفار قريش اليوم نغزوهم ولا يغزوننا، وكان العام التالي للغزوة التي وقعت في السنة الخامسة للهجرة هو عام الصلح، صلح الحديبية، أنت منتصر فلماذا تُصالح، لماذا لا تَدُك حصونهم وتُهَجِرْهُم من بلادهم كما أجبروك على الهجرة؟

صلح الحديبية

ذهب المسلمون للعمرة بلا سلاح إلا من أسلحة خفيفة لحمايتهم خطر الطريق من المدينة إلى مكة عبر الصحراء القاحلة، أراد المسلمون العمرة وأراد الله الفتح.

كان صلح الحديبية بمثابة فتح للإسلام فقد كان أحد شروطه الهدنة عشر سنوات بين قريش والمسلمين استطاع النبي خلالها دعوة الملوك والقياصرة والأكاسرة إلى الإسلام، وأصبحت دعوة الإسلام عالمية بعد أن كانت قاصرة على مكة والمدينة.

عندما يكون هدفك كبيرا لا تحزن إذا لم تحقق هدفا صغيرا سوف يتحقق لك بعد أن تملك أنت مفاتيح الكعبة حين تنتصر على أعدائك في المعركة الكبرى.

وقد تحقق ذلك حيث رجع المسلمون ولم يعتمروا في هذا العام وذهبوا إلى العمرة العام القابل طبقا لشروط الصلح وأُفرغ الحرم بكامله ثلاثة أيام ليقوم المسلمون بأداء مناسك العمرة دون وجود أحد من المشركين وفي حراستهم.

وتحقق الهدف الأكبر حين أخلَّت قريش بالعهد واعتدت على قبيلة خزاعة المتحالفة مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان الحسم مرة أخرى واتخاذ قرار فتح مكة.

لم تكن قبيلة خزاعة قد دخلت في الإسلام لكنها دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان على الحليف الوفي أن يحمي من تحالف معه وإن خالفه في العقيدة والدين.

هذه مكارم الأخلاق التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل النبي وساطة عمه العباس في تلك المعركة فلا وساطة ولا تتدخل لأطراف خارجية بين طرفي التعاقد بعد أن أخل أحدهما بشروط العقد.

فإن قبل النبي وساطة عمه العباس ولم ينتصر لحليفه قبيلة خزاعة فقد الحليف ثقته في هذا التحالف وجرأ الطرف الآخر على مزيد من انتهاك شروط العقد واستبيحت الحرمات وضاع الأمن الذي ضمنه الحليف المتمثل في خزاعة عندما قبل أن يدخل في حلف المسلمين.

لقد تعلم المسلمون من صلح الحديبية الكثير، وأهم ما يمكن أن تتعلمه كيف يكون المسلم إيجابيا حتى في وجود شروط يرفضها بعض المسلمين حرصا على دينهم، كان أحد هذه الشروط هو أن من يدخل في الإسلام من قريش ويهاجر إلى المدينة تجبره المدينة إلى العودة إلى قريش طبقا لشروط الصلح.

ورأى المسلمون ذلك دنية في دينهم لكن رسول الله حاشاه أن يفعلها لكنه آثر الفائدة الأكبر للبشر على الفائدة لبعض المسلمين الجدد الذين سوف يجعل الله لهم فرجا ومخرجا.

إنها إيجابية المسلم الذي رفض هذا الظلم الواقع عليه من عدوه والطرف الآخر الذي ينتمي إليه لا يستطيع أن يقدم له الحماية والأمن، الصلح بين طرفين مكة والمدينة، وما بينهما لي فيها حرية الحركة أفعل فيها ما أشاء وليس لقريش أو دولة المدينة سلطان عليها، تلك هي الخطة.

عندما جاء أبو بصير وأبو جندل إلى المدينة فارين بدينهم أعادهم رسول الله مع الكفار إلى قريش فاستطاعا أن يقاتلا من رافقهم من المشركين وهربا إلى الفضاء الواسع الذي لا سلطان لأحد عليهم فيه، طريق قوافل قريش وكَوَّنُوا جماعة من المسلمين المحظور دخولهم إلى المدينة وقاموا بتهديد اقتصاد قريش وقوافلها.

وهذا لا يمثل إخلالا بشروط صلح الحديبية ما أرغم قريش على الذهاب إلى المدينة لإلغاء هذا الشرط، والإتفاقيات الدولية الظالمة يمكنك الالتفاف عليها بهذه الطريقة المهم أن تعرف موطئ القدم الذي يؤلم الظالمين ويؤلم العدو.

فتح مكة

من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، تحددت الأماكن والملاذات الآمنة المسموح بها في هذه المعركة، معركة فتح مكة.

من وُجد في أماكن أخرى خارجها فلا أمان له، حظر تجول ومن خالف هذا الحظر في المعركة فهو يعلن العصيان واستمرار الحرب ووجب محاربته.

واليوم تُستخدم الملاذات الآمنة مصيدة لقتل المدنيين في الحروب التي تشنها الدول الكبرى التي تملك كل الأسلحة ضد الشعوب العزل من السلاح. وهذا يُعد انتهاكا للاتفاقيات التي تتم بين الدول الضامنة لوقف الحرب.

أهمية الوقت في معالجة الأزمات

انتصر المسلمون في بدر في العام الثاني للهجرة، وأصرت قريش على الثأر لقتلاهم في بدر، وكانت غزوة أُحد درسا آخر للمسلمين بأن الله ينصرهم إذا نصروه في نفوسهم أولا.

لقد كانت المعركة لصالح المسلمين في كل مراحلها حتى ظن الرماة أن المعركة قد انتهت وتركوا مواقعهم طمعا في الغنائم ومخالفة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وقائد المعركة.

ارتكب الرماة خطأين: الأول عصيانهم لأوامر القائد، والثاني حرصهم على الغنائم كان أشد من حرصهم على طاعة الله ورسوله فكانت النتيجة أن خسروا المعركة وخسروا الغنائم، وكاد أن يُقتل رسولُ الله فيها.

استطاع خالد ابن الوليد ولم يكن قد دخل في الإسلام أن يلتف حول الرماة لينقلب النصر إلى هزيمة في لحظة فارقة من لحظات المعركة نسي فيها المسلمون أنفسهم، وثبت القليل من الصحابة دفاعا عن رسول الله حتى قرر المشركون إنهاء المعركة بعد أن تأكدوا من انتصارهم الجزئي فيها وقبل أن يعيد المسلمون توحيد صفوفهم من جديد.

هل يترك النبي المسلمين يعيشون هزيمة نفسية بعد هزيمتهم العسكرية في أُحد، هذه الهزيمة تمثل خطرا على الأمة ويجب وأد هذا الخطر، وهذا ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر كل من شارك في غزوة أُحد أن يستعد للقتال في حمراء الأسد في اليوم التالي لمعركة أُحد.

عندما سمع المشركون بقدوم المسلمين لحمراء الأسد قرروا العودة إلى مكة، وفي حالة الحرب يجب ألا تَترك مكان المعركة قبل أن تنتصر على العدو ولو انتصارا جزئيا حتى لا تحدث هزيمة نفسية للمقاتلين بطول الأمد بين هذه الحرب التي هُزموا فيها وبين المعركة القادمة.

وضعت دولة المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من القواعد التي تضمن أمنها من حيث تأمين كل مواطنيها في الداخل ضد تربص بعضهم ببعض، حيث آخى بين الأوس والخزرج ثم آخى بين المهاجرين والأنصار.

بعدها وضع القواعد التي تحكم علاقة المسلمين بغير المسلمين في دستور المدينة، وأي إخلال بهذه الشروط يكون جزاء صاحبها الطرد من المدينة كما حدث مع اليهود الذين تآمروا على قتل النبي.

وعلى صعيد العلاقات الخارجية أقام تحالفات ثنائية بين القبائل خارج المدينة، كما أمن حدود الدولة وطرق القوافل التجارية حين أدب الرومان الذين كانوا يتربصون بالمسلمين كما فعل في غزوتي مؤتة وتبوك واللتين كانتا تمهيدا للفتوحات الإسلامية بعد ذلك.

ثم أكمل الله الدين وأتم النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، فجاءت لحظة انتقال النبي إلى ربه لحظة فارقة في تاريخ أمة الإسلام، لحظة دقيقة تحتاج إلى إيمان راسخ وقلب جسور وقرار حاسم ليعيد الإسلام لدولة الإسلام في الجزيرة.

الخليفة الأول أبوبكر الصديق

حين سمع المسلمون خبر موت النبي لم يصدقوا حتى أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه رفع صوته مهددا من يقول أن رسول الله مات.

جاء أبوبكر الصديق رضي الله عنه وتأكد من موت النبي فخرج إلى الناس قائلا فيهم: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ قول الله تعالى:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الآية 144 من سورة آل عمران

وعاد المسلمون إلى رشدهم بعد سماعهم لتلك الآية حتى قال عمر: وكأني لم أسمعها من قبل، كان هذا أول الحسم من أبي بكر رضي الله عنه وهو الرقيق اللين وصاحب رسول الله في الغار وكأن إيمان المرء يُقاس عند الشدائد.

وهكذا ظهر الفرق بين إيمان أبي بكر وإيمان عمر رضي الله عنهما، اللذين كانا يتسابقان على اختبار قوة إيمانهما، فقد جاء عمر بنصف ماله إلى النبي في غزوة تبوك فسأله النبي ماذا تركت لأهلك فقال عمر: تركت لهم النصف الآخر، وجاء أبوبكر بكل ماله فسأله النبي نفس السؤال فقال أبوبكر: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: والله لا أسبقك أبدا.

سقيفة بني ساعدة

الحسم الثاني الذي تم في اليوم الأول من وفاة النبي هو اختيار خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا الأمر بالأمر اليسير حيث كاد أن يقع خلاف بين المهاجرين والأنصار على من يتولى الخلافة.

ظن الأنصار أن الخليفة ينبغي أن يكون منهم لأنهم أصحاب البلد، وبنصرتهم قامت الدولة، وعلى أرضهم تحقَّق المجد لها، فاجتمع الأنصار على اختيار سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الخزرج للخلافة.

ولم يدركوا الفرض الشرعي الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبًا عند اختيار الخليفة، وهو أن يكون من قبيلة قريش. عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:  لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ.

اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وعلم المهاجرون بهذا الاجتماع، فأسرع إليهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، واقترح الأنصار منا أمير ومنكم أمير، ويروي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه أراد أن يتحدث إلى الناس فطلب منه أبوبكر أن يبدأ الكلام، فقال للأنصار:

مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ العَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ عمر وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ، وَبَايَعَهُ المُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ.

لم يقبل عمر وأبوعبيدة أن يتقدما أبا بكر الصديق في الخلافة وقد قدمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إمامتهم للصلاة، وقبل الأنصار بيعة أبي بكر حين ذكرهم أن هذا الأمر في قريش وقالوا نحن الوزراء وأنتم الأمراء، وتذكروا أن بيعتهم لرسول الله على نصرته مقابلها الجنة لا أن يتولوا الأمر من بعده.

الدروس المستفادة من بيعة السقيفة لضمان أمن الدولة في الفترات الإنتقالية:

  • ألا تُترك الدولة بدون قيادة ولو مدة ثلاثة أيام حيث تم اختيار أبي بكر خليفة للمسلمين في اليوم الأول لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يُواريِ جسده الشريف الثرى.
  • ألا يُقدِم أحدا نفسه للخلافة إلا إذا قدمه غيره لها كما فعل أبوبكر حين قدم عمر وأبا عبيدة لها ولم يُقدم نفسه.
  • ألا يقبل أحد بهذا الأمر إذا وُجِد في القوم من هو أفضل منه كما فعل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين تقدم إلى أبي بكر قائلا له أمام الناس: ابسط يدك أبايعك فبايع وبايع المهاجرون والأنصار من بعده.
  • لا يكون الحاكم حاكما إلا ببيعة عموم الناس له، لا أن يأتي الحاكم والسيف على رقابهم.

قتال المرتدين ومانعي الزكاة

كانت اختيار خليفة للمسلمين هي الخطوة الأولى لتأمين الدولة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الخطوة التالية والتي كانت أشد حسما حين قرر الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه قتال المرتدين

ارتدت أغلب قبائل جزيرة العرب حين علمت بموت النبي صلى الله عليه وسلم وأرادت أن تتحرر من سلطان دولة المدينة، وبعض القبائل قررت عدم دفع الزكاة، وهناك من ادعى النبوة في حياة النبي وآخرون بعد موته، ودولتي الفرس والروم ونصارى الجنوب تحالفوا على قتال المسلمين، كل هذا حدث بعد وفاة النبي وفي الأيام الأولى من خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

كانت الشورى هي أساس الحكم في الإسلام وأكدها الصديق أبوبكر حين قال: إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فَقَوِّمُوني، واستشار أبو بكر المسلمين، فكان من رأي عمر رضي الله عنه هو عدم قتال مانعي الزكاة، وكنت أسأل نفسي من أين جاء فهم الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتال مانعي الزكاة، فإذا بي أقف عند قول الله تعالي في سورة فُصِّلت:

قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ (6) ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (7) 

فكان قرار أبي بكر صائبا حين قاتل المرتدين ومانعي الزكاة، فلولا ذلك لما وصل إلينا من الإسلام شيئا، حيث قال: والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه لرسول الله لقاتلتهم على منعه.

أعد أبوبكر الصِدِّيق رضي الله عنه أحد عشر جيشا لقتال المرتدين، ولم يكن قتالهم نزهة بل كان قتالا عنيفا حدثت فيه مقتلة للمسلمين خاصة في معركة اليمامة التي قتل فيها الكثير من حفظة القرآن الكريم، وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الخليفة أبوبكر يفكر في جمع القرآن.

انتصرت تسعة جيوش وهُزِم جيشان من مسيلمة الكذاب ما اضطر الخليفة أبوبكر أن يرسل خالد ابن الوليد إلى اليمامة لقتال مسيلمة، وانتصر المسلمون في بداية المعركة لكن مسيلمة التف عليهم وتحصن جيشه في حديقة الموت، فبدأ خالد يقسم جيشه ويحمسه ويصيح قادتهم: يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال، فقام البراء ابن مالك بإلقاء نفسه داخل الحديقة ففتحها بعون الله وانتصر المسلمون انتصارا ساحقا ثبت أركان دولة الإسلام.

أسامة بن زيد يحارب الروم

لم تكن خطوة إرسال جيش أسامة ابن زيد لقتال الروم أقل حسما من قتال المرتدين، بل إن أبا بكر رضي الله عنه أصر على إرسال جيش أسامة في نفس التوقيت أعد جيوشه لمحاربة المرتدين رغم اعتراض كبار الصحابة رضي الله عنهم على قيادة أسامة للجيش، لكن أبابكر يثور عليهم قائلا: والله لا أحلُّ عقدةً عقدها رسول الله، ولأجهزَنَّ جيش أسامة.

خرج جيش أسامة إلى أطراف الشام وفرَّت منه الجيوش الرومانية، فلم يلقَ قتالاً، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدَّتْ، فقاتلهم، وشتَّتَ شملهم، وهزمهم، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصِّدِّيق في المدينة، ومعه الغنائم من هذه الموقعة.

وخروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبةً من المسلمين مما جعلهم يظنُّون أن للمسلمين قوةً في المدينة، وأن هذا جزءٌ صغير من الجيوش، فقرَّرَتْ عدم الهجوم على المدينة.

بداية الفتوحات الإسلامية

كما نرى من بداية الحكم في دولة المدينة بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى واختيار أبي بكر خليفة لرسول الله أنها فترة انتقالية عصيبة تحتاج إلى قرارات حاسمة لحماية الدولة الناشئة من التفكك والانهيار.

بدأت بثبيت المسلمين على دينهم بعد موت النبي، ثم اختيار خليفة للمسلمين في اليوم الأول من وفاته صلى الله عليه وسلم في اجتماع السقيفة، وبعدها محاربة المرتدين ومانعي الزكاة وفي نفس التوقيت إنفاذ بعث أسامة لترهيب العدو الخارجي حتى لا يستثمر الحروب الداخلية ويغزو المدينة.

وبعد تلك القرارات الحاسمة استتب الأمر للدولة وبدأ الخليفة أبوبكر الصديق في فتح بلاد الشام وفارس ليكمل بعدها الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب الفتوحات بعد أن ثبت أبوبكر أركان الدولة.

دولة المماليك

بدأ الصليبيون حملتهم السابعة على مصر في عام 647 للهجرة، حين تمكن لويس التاسع ملك فرنسا من احتلال دمياط، وحزن السلطان الصالح أيوب حزنا شديدا وقرر ملاقاة جيش لويس التاسع في المنصورة وحُمِل السلطان رغم مرضه إلى المنصورة وأعد فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس الخطة لحرب الصليبيين.

نهاية حكم الدولة الأيوبية

توفي السلطان الصالح أيوب وهو في المنصورة يُعد العدة للقاء العدو ، ودمياط محتلة من الصليبيين ولا يوجد نائب يخلف السلطان في هذا الوقت العصيب الذي يتطلب قرارات حاسمة لضمان النصر وبقاء الدولة.

وجاءت تلك القرارات من شجرة الدر زوجة الملك الصالح أيوب، حيث أخفت خبر وفاته عن الجند، وأرسلت إلى توران شاه ابن نجم الدين أيوب كي يأتي لاستلام الحكم، واتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح على إدارة الدولة، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس باستكمال الإعداد لمعركة المنصورة، وكانت شجرة الدر تمثل الحاكم الفعلي للبلاد إلى أن يأتي توران شاه.

وفي الرابع من ذي القعدة من عام 647 هجرية دارت معركة المنصورة وانتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما، ثم حدث هجوم آخر على جيش لويس التاسع خارج المنصورة لكنه استطاع صد هذا الهجوم.

وفي أوائل عام 648 هجرية التقى الجيش المصري مع جيش لويس التاسع في فارسكور بعد أقل من شهرين من معركة المنصورة ودارت بينهما معركة كبيرة انهار فيها جيش لويس التاسع الذي وقع في الأسر في تلك المعركة وتم حبسه في دار ابن لقمان بالمنصورة.

وبدأ نجم المماليك يسطع بعد تلك المعركة خاصة أن توران شاه لم يكن الشخصية التي تصلح للحكم والسياسة، فقد تنكر لشجرة الدر التي حفظت الملك له، وتنكر للقادة الذين وضعوا خطة الحرب وقادوا المعارك وانتصروا بفضل الله، وبدأ يقلص من صلاحياتهم وكان هذا إيذانا بانتهاء الدولة الأيوبية لتبدأ دولة المماليك في الظهور.

وبين تولي توران شاه وقتله وَحَدَّت الحرب الجميع حتى يتمكنوا من تحرير دمياط والإنتصار على الصليبيين بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا والتي انتهت بأسره وحبسه في دار ابن لقمان بالمنصورة.

شجرة الدر أول حكام المماليك

بعد مقتل توران شاه تولت شجرة الدر الحكم بالاتفاق مع المماليك البحرية، وبعد ثورة الشعب المصري وباقي الشعوب المسلمة ورفضهم تولي إمرأة لحكم مصر فكرت في الزواج من أحد المماليك الذين لا يطمعون في الحكم لتحكم هي من وراء ستار.

ووقع اختيارها على عز الدين أيبك فتزوجته وتنازلت له عن الحكم وقد حكمت مصر 80 يوما قبل أن تتنازل عن الحكم، وفي هذا العام تولى حكم مصر أربعة ملوك: الملك الصالح أيوب ثم مات وتولى ابنه توران شاه من بعده ثم قتل فتولت شجرة الدر إلى أن تنازلت عن العرش لعزالدين أيبك الذي لُقِّب بالملك المعز.

لم يصطدم عزالدين أيبك بشجرة الدر أو المماليك البحرية في بداية حكمه بل تعمد إنشاء جبهة قوية يستطيع بها مواجهة المماليك البحرية، وكَوَّن ما يعرف بالمماليك المعزية على رأسهم سيف الدين قطز.

وقد كانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد مقتل توران شاه فتجمع الأمراء الأيوبيون في الشام لغزو مصر واستعادة حكم الأيوبيين، والتقى معهم الملك عز الدين أيبك بنفسه بعد أربعة أشهر من توليه الحكم وانتصر عليهم انتصارا كبيرا مما عزز من مكانته لدى شعب مصر.

وبعد ثلاث سنوات من حكمه دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل تحت حكم مصر، وأضاف هذا الأمر قوة إلى قوة عزالدين أيبك وزاد حقد المماليك البحرية عليه خاصة فارس الدين أقطاي الذي كان يعامله باستهانة واحتقار، فأصدر أوامره بقتل أقطاي حتى لا ينازعه السلطة، وبقتل أقطاي خشيت المماليك البحرية على نفسها فهربت إلى الشام.

وتوسط الخليفة العباسي على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين تحت حكم عزالدين أيبك إلا أن ركن الدين بيبرس رفض العودة إلى فلسطين وبقي في الشام.

وقرر عزالدين أيبك توسيع سلطانه فقرر الزواج من ابنة حاكم الموصل وهنا قررت شجرة الدر قتل زوجها فألقى سيف الدين قطز القبض على شجرة الدر وقتلتها زوجة عزالدين أيبك، وتولى ابنها نورالدين علي الحكم وهو لم يبلغ الخامسة عشر عاما ولُقِّب بالمنصور ، وتولى الوصاية عليه سيف الدين قطز قائد الجيش وزعيم المماليك المعزية، وأصبح سيف الدين قطز هو الحاكم الفعلي للبلاد.

وبعد ثمان سنوات من معركة المنصورة وفارسكور وأسر لويس التاسع، سقطت بغداد في 4 صفر سنة 656 هجرية الموافق 10 من فبراير 1258م ، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وبعد الشام لا بُدَّ أن تكون الخطوة التالية هي مصر.

ومع تولي نورالدين الحكم حدثت اضطرابات جديدة في مصر وصراع جديد على الحكم من الأمراء الأيوبيين، وثورات المماليك البحرية، اتخذ سيف الدين قطز قراره بعزل السلطان الطفل نورالدين علي وتولى الحكم بنفسه بعد موافقة العلماء ليتمكن من الإعداد لمواجهة التتار، كان هذا في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام.

كان قطز يوقر العلماء، ويطيعهم فعندما أراد فرض ضريبة على الشعب لتجهيز الجيش، وأفتى العز بن عبد السلام بعدم الجواز إلا بعد أن يُخرِج الأمراء ما عندهم من أموالهم وأموال نسائهم وجواريهم؛ كان قطز أول مَن نفَّذ تلك الفتوى على نفسه، ثم طبقها على بقية الأمراء.

سلطان العلماء والعز ابن عبدالسلام

تحالف الصالح إسماعيل الأيوبي مع الصليبيين لقتال أخيه نجم الدين أيوب والاستيلاء على حكم مصر مقابل إعطائهم مدينة صيدا والشقيف وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر.

ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًا حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.

فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس.

لاحق الصالح إسماعيل وحَبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، وقرب جدًّا من السلطان الصالح أيوب ، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء.

بائع الأمراء

ومن مواقفه الشهيرة التي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم؛ لأنهم من العبيد.

واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ورُفِع الأمر إلى الصالح أيوب، فرفض كلام الشيخ، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فقرر الشيخ أن يعزل نفسه عن منصبه في القضاء، لكن علماء مصر وشيوخها رفضوا هذا القرار وانحازوا إلى سلطان العلماء العز ابن عبدالسلام.

ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تُنَفَذَ فتواه، وقال له: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يُباعوا أولًا، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ووافق الملك الصالح أيوب.

وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء، وبدأ يعرض الأمراء واحدًا بعد الآخر في مزاد، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جدًّا، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووُضِع المال في بيت مال المسلمين.

وهكذا بِيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يُعرف ببائع الأمراء.

أنقذ العز ابن عبدالسلام حكم المماليك حين طالب السلطان نجم الدين أيوب ببيعهم ثم تحريرهم من الرق لأنه لا يجوز للعبيد أن يكون لهم الولاية على الأحرار.

هذا دور العلماء في كل وقت تصحيح الأوضاع الخاطئة التي يقع فيها الحكام، والعودة إليهم لضمان أن قراراتهم السياسية لا تخالف شرع الله وحكمه.

موقعة عين جالوت

كان الناصر يوسف الأيوبي صاحب دمشق وحلب أقوى الأمراء الأيوبيين وأكثرهم قدرة على مواجهة هولاكو ، لكنه أرسل ابنه العزيز إلى هولاكو يحمل إليه الهدايا، ويعلن خضوعه له، ويطلب منه أن يساعده على الاستيلاء على مصر وتخليصها من حكم دولة المماليك، لكن هولاكو رأى في عدم قدوم الناصر إليه بنفسه استهانة به، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه وتقديم الولاء والخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج الناصر، وبعث بأسرته إلى مصر.

خرج هولاكو في رمضان (657هـ= 1259م) من عاصمة دولته مراغة في أذربيحان، معه حلفاؤه من أمراء جورجيا وأرمينيا، يقود طلائعه قائده كتبغا، متجهين إلى الشام، فصمدت المدينة للحصار مدة طويلة دون أن يفلح المغول في اقتحامها، غير أن طول الحصار ونفاد المؤن وانتشار الأوبئة وهلاك معظم السكان دفع إلى استسلام المدينة.

وفي أثناء الحصار كانت جيوش المغول تستولي على المدن المجاورة، فسقطت ماردين، وحران، والرها وسروج والبيرة، ثم واصل الجيش زحفه إلى حلب وحاصرها حصارًا شديدًا، حتى استسلمت في (9 من صفر 658هـ- 25 من يناير 1260م).

وأباح هولاكو المدينة لجنوده فعاثوا فيها فسادًا، ونشروا الخراب في كل أرجائها، ولم تكد تصل هذه الأنباء المفجعة إلى دمشق حتى آثر أهلها السلامة بعد أن فر حاكمها الناصر يوسف الأيوبي، وسارعوا إلى تسليم المدينة.

وغادر هولاكو الشام وعاد إلى بلاده تاركًا مهمة إكمال الغزو لقائده كتبغا فدخل دمشق في (15 من ربيع الأول 658هـ= 1 من مارس 1260م). وكان من نتيجة هذا الغزو أن فر كثير من أهل الشام إلى مصر التي كانت تحت سلطان دولة المماليك ، ويحكمها المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك، وفي هذه الأثناء بعث الملك الناصر يوسف برسول إلى مصر يستنجد بعساكرها للوقوف ضد الزحف المغولي.

ولما كان سلطان مصر غير جدير بتحمل مسئولية البلاد في مواجهة الخطر القادم، فقد أقدم نائبه سيف الدين قطز على خلعه، وبدأ يوطد أركان دولته ويثبت دعائم حكمه، فعين من يثق فيهم في مناصب الدولة الكبيرة، وقبض على أنصار السلطان السابق، وأخذ يستعد للجهاد وملاقاة المغول.

كما سمح برجوع بعض أمراء المماليك من خصومه وكانوا بالشام، وعلى رأسهم بيبرس البندقداري فرحب به، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها، وأغرى قوات الناصر يوسف الأيوبي الذي فر من دمشق وطلب نجدة المماليك بمصر بالانضمام إلى جيشه وكانت بالقرب من غزة، فاستجابت لدعوته.

وفي تلك الأثناء وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة تحمل خطابا تقطر كبرا وغطرسة، ويمتلئ بالتهديد والوعيد، وأمام هذا الخطر الداهم عقد السلطان قطز مجلسًا من كبار الأمراء، واستقر الرأي على مقابلة وعيد المغول بالاستعداد للحرب.

وعزز ذلك بقتل رسل المغول ردًا على تهديد هولاكو وكان هذا التصرف إعلانًا للحرب وإصرارًا على الجهاد، وفي الوقت نفسه بدأ قطز يعمل على حشد الجيوش وجمع الأموال اللازمة للإنفاق على الاستعدادات والتجهيزات العسكرية.

وقبل أن يفرض ضرائب جديدة على الأهالي جمع ما عنده وعند أمرائه من الحلي والجواهر، واستعان بها في تجهيز الجيش، استجابة لفتوى الشيخ العز بن عبد السلام أقوى علماء عصره.

ولم يقتصر الأمر على هذا، بل لقي صعوبة في إقناع كثير من الأمراء بالخروج معه لقتال المغول، فأخذ يستثير نخوتهم ويستنهض شجاعتهم فخرجوا معه وتعاهدوا على القتال.

وفي (رمضان 658هـ= أغسطس 1260م) خرج قطز من مصر على رأس الجيوش المصرية ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وأمر الأمير بيبرس البندقداري أن يتقدم بطليعة من الجنود ليكشف أخبار المغول، فسار حتى لقي طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثرا في نفوس جنوده.

وبعدها تقدم السلطان قطز بجيوشه إلى غزة، فأقام بها يومًا واحدًا، ثم رحل عن طريق الساحل إلى عكا، وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض واكتفى منهم بالوقوف على الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول.

ثم وافى قطز الأمير بيبرس عند عين جالوت بين بيسان ونابلس. وكان الجيش المغولي يقوده (كتبغا) بعد أن غادر هولاكو الشام إلى بلاده للاشتراك في اختيار خاقان جديد للمغول.

وجمع القائد الجديد قواته التي كانت قد تفرقت ببلاد الشام في جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة (25 من رمضان 658هـ= 3 من سبتمبر 1260م) حتى اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل على طلائع الجيوش المصرية حتى تحقق نصرًا خاطفًا، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز ثبت كالجبال.

واإسلاماه، صرخة خرجت من قطز فعمت أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا على الجيش المغولي الذي فوجئ بهذا الثبات والصبر في القتال، وفروا هاربين إلى التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كتبغا يسقط صريعًا في أرض المعركة.

لم يكتفِ المسلمون بهذا النصر في معركة عين جالوت، بل تتبعوا بقايا جيش المغول الذين تجمعوا في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها، وعاد السلطان قطز يصيح صيحته واإسلاماه ويضرع إلى الله قائلا: اللهم انصر عبدك قطز، وانتهى الأمر بهزيمة المغول لأول مرة، فنزل السلطان عن جواده، ومرغ وجهه على أرض المعركة وقَبَّلها، وصلى ركعتين لله شكرا.

كانت معركة عين جالوت واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجه بمثله من قبل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذ أن يدفعه.

وكان هذا النصر إيذانًا بخلاص الشام من أيدي المغول؛ إذ أسرع ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق على رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 هـ)، وبدأ في إعادة الأمن إلى نصابه في جميع المدن الشامية، وترتيب أحوالها، وتعيين ولاة لها.

بين أسر لويس التاسع وعين جالوت

  • كانت معركة المنصورة في (4 من ذي القعدة من عام 647 هجرية = 8 فبراير 1250م)
  • معركة فارسكور في أوائل عام 648 هجرية التي أُسر فيها لويس التاسع ملك فرنسا.
  • وبعد مقتل توران شاه (28 محرم 648ه – 2 مايو 1250م) خرجت الشام من حكم مصر، وقرر الأمراء الأيوبيون غزو مصر لإستعادة حكمهم فيها لكن السلطان عزالدين أيبك انتصر عليهم في مدينة العباسية بالقرب من الشرقية، وبعد 3 سنوات من حكمه دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل تحت حكم مصر.
  • وبعد معركة المنصورة بثمان سنوات سقطت بغداد في (4 من صفر 656 هـ = 10 من فبراير 1258م)
  • وبعدها بعامين استسلمت حلب في (9 من صفر 658هـ = 25 من يناير 1260م)
  • ودخل كتبغا دمشق في (15 من ربيع الأول 658هـ = 1 من مارس 1260م).
  • واستعد الجيش بقيادة سيف الدين قطز لصد المغول عن غزو مصر بعد ستة أشهر من سقوط دمشق، وانتصر المسلمون في عين جالوت يوم الجمعة (25 من رمضان 658هـ = 3 من سبتمبر 1260م)
  • ودخل قطز دمشق على رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 هـ = 5 من سبتمبر 1260م)

بين أسر لويس التاسع وقتل توران شاه وإنهاء حكم الأيوبيين وبدء حكم المماليك بتولي شجرة الدر الحكم تجد أنه رغم هذا كله حدثت انتصارات كبيرة ضد من أراد غزو مصر من الأمراء الأيوبيين.

في نفس التوقيت تتحرك قوات هولاكو لإسقاط بغداد عاصمة الخلافة العباسية حتى وصلت جنوده إلى دمشق وحاصرتها حتى سقطت، وأصبحت القوات المغولية على وشك غزو مصر، وكل هذه الأحداث الكبيرة حدثت خلال عشر سنوات، من 648 هجرية إلى 658 هجرية.

تمثل معركة عين جالوت تجسيدا واضحا لأهمية الوقت من ناحية، ودور العلماء في الحكم من ناحية أخرى.

بعد ستة أشهر من سقوط دمشق استعدت مصر بقيادة سيف الدين قطز لقتال المغول، بعد أن كانت تحت حكم السلطان المنصور نورالدين علي ابن عزالدين أيبك.

وبعد استشارة العلماء وعلى رأسهم العز بن عبدالسلام قرر قطز عزل الملك المنصور وتولي الحكم ليتمكن من إعداد الجيش وصد المغول عن غزو مصر.

كما رفض العز بن عبدالسلام جمع ضرائب من الشعب قبل أن يدفع الأمراء من أموالهم لتجهيز الجيش، والأهم من ذلك أنه أنقذ حكم المماليك حين أصر على بيع الأمراء وتحريرهم قبل تولي المناصب في الدولة لأنه لا يجوز للعبيد الولاية على الأحرار.

خاتمة

على العالم الإسلامي وسط الأزمات التي يعيشها العالم، أن يدرك دوره الحقيقي في إنقاذ العالم من الهلاك وسوء الأخلاق والحرب النووية المنتظرة نتيجة إصرار طرف على القضاء على الطرف الآخر، فهو يستطيع أن ينقذ الطرفين معا حين يقف محايدا وحكما عادلا بين الطرفين، وهذا يتطلب الآتي:

  • الضغط على الرئيس الأوكراني للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي برعاية الأمم المتحدة وبوجود طرف محايد يقبل به الطرفان مثل تركيا في محاولة لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
  • إلزام أمريكا بإعادة الأموال المجمدة لروسيا وفك الحصار الإقتصادي عنها كخطوة إيجابية لإنهاء الحرب، ومطالبة روسيا بوقف الحرب في مقابل تعهد أوكرانيا بعدم انضمامها لحلف الناتو، وإعادة العلاقات المتوازنة بين روسيا ودول أوروبا.
  • إلزام أمريكا بإعادة الأموال المجمدة لأفغانستان والإعتراف بالحكومة الحالية وعدم التدخل في الشئون الداخلية لها، فهي لم تلزم الشعب الأمريكي بالإحتكام للشريعة الإسلامية بل تلزم فقط الشعب الأفغاني المسلم.
  • إلزام أمريكا بوقف الدعم لأنظمة الحكم الإستبداية في الدول العربية والإسلامية ورفع وصايتها عن شعوب تلك الدول حتى لا تجد نفسها في نهاية الأمر في مواجهة مباشرة مع تلك الشعوب، فتتأثر مصالحها في المنطقة، وعليها فقط أن تقيم علاقات متوازنة وندية مع تلك الدول.
  • إلزام أمريكا بوقف دعمها للميليشيات المسلحة في سوريا والعراق واحترام سيادة هذه الدول حتى يتمكن اللاجئون من العودة إلى بلادهم.
  • إلزام أمريكا بوقف دعمها لإيران لإشعال الفتن الطائفية والمذهبية في دول الجوار.
  • إلزام أمريكا وإيران بوقف حرب الميليشيات التي صنعتها في المنطقة قبل أن تنتقل هذه الحرب إليهما.
  • إلزام روسيا بوقف حربها في سوريا في مقابل اتفاقية صداقة بين الدولتين لتقديم تسهيلات لها في شرق المتوسط على أساس من التعاون والمصالح المتبادلة بين الدول.

وكل من أمريكا وروسيا اليوم يخطب ود العالم الإسلامي الذي سوف يحدد من سيفوز في هذا الصراع إذا انضم لهذا الطرف أو ذاك، أو يكون له رأي آخر تجتمع معظم الدول الإسلامية عليه وهو الحياد بين الطرفين والذي يؤدي في النهاية إلى التوازن في المنطقة وعدم الوصول إلى حرب عالمية ثالثة قد تؤدي إلى هلاك كوكب الأرض.

وعلى الدول الإسلامية إذا أرادت أن تعيد إليها حقوقها التي سُلِبت منها أن تتخذ هذا الموقف، وهنا ستصبح قطبا جديدا قادرا على التأثير في القرار الدولي وبالتالي تغيير منظومة القوانين الدولية لصالح كل الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، ومنها توسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن ليضم داخله ربع الأعضاء من دول إسلامية.

كعالم إسلامي لا نسعى لتقسيم روسيا أو أمريكا بل نسعى لإقامة علاقات متوازنة مع جميع دول العالم على أساس احترام المواثيق والمعاهدات الدولية وقبلها وبعدها احترام خصوصية المجتمعات المسلمة، والتي تضمن العدل والمساواة للجميع، وتاريخ المسلمين على مدى ألف عام يشهد بذلك.

المراجع

  1. أحمد أبوالوفا – أثر أئمة الفقه الإسلامي في تطور قواعد القانون الدولي – القاهرة – 1997
  2. سعيد اللاوندي – علي الربيعي – القرن الواحد والعشرين هل يكون أمريكيا – 2002
  3. سمير أمين – الحرب الدائمة وأمركة العالم – بيروت – 2004
  4. عفاف محمد الباز – دور القيادة الإبداعية في إدارة الأزمات – 2002
  5. عبدالسلام القحف – التخطيط للأزمات – 1999
  6. ماجد سلام الهدمي – جاسم محمد – مبادئ إدارة الأزمات – الأردن – 2008
  7. مبارك علوي محمد لزنم – إدارة الأزمات الأمنية في ظل المتغيرات الدولية – حضرموت – 2020
  8. منذر عنبتاوي – واجب الأطراف الثالثة في الحروب المعاصرة – مركز البحوث والدراسات

سحر زكي – رئيس تحرير موقع القارات الخمس

احجز موقعك على الإنترنت من خلال هذا الرابط

1 2 3 4 5 6 7 8
1 2 3 4 5 6 7 8
1 2 3 4 5 6 7 8

لا توجد مقالات

1 2 3 4 5 6 7 8
Scroll to Top